لا زال الناس يمتدحون القلوب الرقيقة، ولا زال الشعراء والكتاب يتحدثون عن فضائل الرقة في القلوب وكيف أن أصحابها هم أرقى الناس مكانة وأرفع الناس قدرا.
بل إن الإسلام قد مدح كل قلب رقيق، وذم القلوب القاسية، ففي كتاب الله سبحانه قوله تعالى: {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو اشد قسوة}.
وحق لكل قلب رقيق أن يمتدح، فالقلوب الرقيقة هي الأكثر قربا إلى الله سبحانه ووالأكثر تأثرا بالموعظة والتذكرة، والأقرب إلى الندم على ما فات والأقرب بالبكاء من خشية الله، والأكثر شعورا بالفقراء والضعفاء والمرضى وذوي الشكوى، وهي الأرفق بالناس في المعاملات والتصرفات، وهي الأكثر إستمساكا بالقيم العليا والمبادئ السامية، بل إن الله سبحانه قد وصف نبيه بالرقة والرفق والرحمة فقال سبحانه: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك}.
والله سبحانه قد لفت المؤمنين إلى تلك المعاني فيما يخص القرب منه سبحانه والعودة إليه عز وجل، وكأن الآيات تنبهنا إلى أن القلوب الرقيقة هي الخاشعة وهي المنيبة له سبحانه وهي صاحبة الرجاء في القبول عنده عز وجل فقال سبحانه: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون}.
بل إن الآيات تعلمنا أن القسوة قد تقع من المسلمين أيضا ومن أهل الإيمان في لحظات مختلفة، وأن أهل الإيمان يتفاوتون في رقة القلب وقسوته، وأن النصيحة برفق القلب هي نصيحة لازمة للمؤمنين، وأن تحذيرهم من قسوة القلوب لازم مهم.
ذلك بعكس القلوب القاسية والفظة، فهي لا تبالي عادة بالضعفاء، ولا تتأثر بالمواقف المؤلمة وولا تكاد تشعر بآلام الآخرين، كما أنها بين يدي الله سبحانه متحجرة، لا تتأثر بالتذكرة ولا بالموعظة.
وهل إشتكت الأرض إلا من غلظة القلوب، وهل تدنست مشارقها ومغاربها إلا من الأفظاظ الجلادين الذين لا يبالون بصرخات الضعفاء؟!، بل إن قسوة القلوب تكاد أن تكون شرطا لكل من أراد أن يمارس الإجرام أو الظلم أو الجور، فالقلوب الرقيقة لا تقوى على الظلم ولا تهدأ مع الأذى، ولا ترتضي الإضرار.
لكن حالة مضادة لكل معقول ومعاكسة لكل مقبول تكاد تحدث في مجتمعاتنا اليوم، فقد صار رغد العيش وسكون البال وصفا لأصحاب القلوب القاسية الفظة، فهم اليوم الذين ينامون ملء جفونهم، وهم اليوم الذين ينجحون في جمع الأموال، وتبوء المناصب الكبيرة، وهم الذين يخرجون من المشكلات بكل هدوء وبرود! إنها معضلة فكرية وحالة متناقضة بين وصف الخير والصلاح وبين نتائج الواقع المرير!
لاشك أن هناك نفوسا رقيقة وقلوبا رفيقة تتصف بالرصانة والهدوء والسكينة في مواجهة المواقف، وليس عن هذا حديثي فهؤلاء قد منّ الله عليهم بفضل ونعمة، مع تمتعهم بالإيمان وصفات القلوب الرقيقة ووهؤلاء من أفاضل الناس وخيرتهم، بل إن منهم الصحابي الجليل الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: «إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله، الحلم والأناة».
لكنني أتحدث عن هؤلاء القساة العصاة الذين وجدوا بغيتهم في مجتمعات لا تأبه للفضائل في مقابل المصالح، بل تدعو إلى المصلحة الذاتية والشخصية والحزبية، أتحدث عن هؤلاء القساة الذين يقر لهم نوم هادئ بين صرخات الثكالى وأنات المكلومين وشكاوى المظلومين، أتحدث عن هؤلاء الذين يستطيعون إسكات ضمائرهم عن المظالم من حولهم وعن ضياع الحقوق وعن الضرر والإضرار مادام ذلك لم يمسهم ولم ينتقص من مصالحهم أو يقترب من الإضرار بهم، أتحدث عن هؤلاء الذين يزنون الحياة بميزان واحد فقط هو ميزان مكاسبهم المادية، ويديرون ظهورهم لكل ما يعوقهم عن تلك المكاسب مهما كانت فضيلة أو مكرمة بل مهما كان واجبا أو حقا!
إن القضية مبادئية من الأساس، فمجتمعاتنا التي بدأت تتخلى عن مبادئها وقيمها هي التي سمحت بهذا العفن أن ينمو بين جنباتها، وهي التي غذت تلك الروح النفعية البغيضة، وهي التي ساندت أصحاب المصالح مادامت مشتركة، وهي التي أغفلت صرخات المكلومين، فصار الناس يرون أصحاب القلوب الرقيقة غير قادرين على الإنجاز والنجاح لبذلهم وعطائهم وحملهم هموم غيرهم في حين يرون الجامدين القساة هم المنصبون في المقدمة.
إننا بحاجة إلى إعادة القيم الحقة إلى نصابها، وبحاجة إلى رؤية الحق حقا والباطل باطلا، وبحاجة أن نرفع شأن الخير والصلاح والإصلاح، وأن نجتمع سويا على خزي الشر والسوء والقيم الخربة فنعلن سقوطها ورفضها، وإلا فنحن أمام خطر عظيم!
الكاتب: خالد رُوشه.
المصدر: موقع المسلم.